فصل: تفسير الآيات (9- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (9- 15):

قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{إِنَّا نَحْنُ} أي على ما لنا من العظمة لا غيرنا من جن ولا إنس {نزلنا} أي بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام {الذكر} أي الموعظة والشرف {وإنا له} أي بعظمتنا وإن رغمت أنوف الحاسدين {لحافظون} أي دائمًا، بقدرتنا وعلمنا، لما في سورة هود من أن ذلك لازم للحفظ فانتفى حينئذ جواز أن ينزل على مجنون مخلط لاسيما وهو على هذه الأساليب البديعة والمناهيج الرفيعة، فكأن المعنى: أرسلناك به حال كونك بشرًا لا ملكًا قويًا سويًا، يعلمون أنك أكملهم عقلًا، وأعلاهم همة، وأيقنهم فكرًا، وأتقنهم أمرًا وأوثقهم رأيًا، وأصلبهم عزيمة؛ روى البخاري في التفسير والفتن عن زيد بين ثابت- رضي الله عنهم- قال: أرسل إليّ أبو بكر- رضي الله عنهم- مقتل أهل اليمامة وعنده عمر-رضي الله عنهم- فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس- وفي رواية: بقراء القرآن- وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير! فلم يزل عمر يراحعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر.
قال زيد بين ثابت: وعمر جالس عنده لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال أبو بكر: هو والله خير! فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة- أو أبي خزيمة- الأنصاري، لم أجدهما- أي مكتوبتين- عند أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}- إلى آخرها، وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم حفصة بنت عمر-رضي الله عنهم-.
وساق هذا الأثر أيضًا في فضائل القرآن، وروي بعده عن أنس- رضي الله عنهم- أن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهم- قدم على عثمان-رضي الله عنهم- وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة- رضي الله عنهم- اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان- رضى الله عنهما ـ: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة-- رضى الله عنهما- أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام- رضي الله عنهم- م، فنسخوها في المصاحف؛ وقال عثمان- رضي الله عنهم- للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وله عن خارجه بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت- رضي الله عنهم- قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيرًا أسمع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري- وفي رواية: فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة- الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهادته شهادة رجلين {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23]. فألحقناها في سورتها في المصحف.
وفي الأثر الأول دلالة على أنه كان- لما أمره الصديق- رضي الله عنهم- لا يكتب شيئًا إلا إذا وجد ما كان قد كتب منه بحضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمره، وقابله مع ذلك على المحفوظ في صدور الرجال؛ وفي الأخير دليل من قوله: نسخنا المصحف في المصاحف- إلى آخره، أنه أعاد التتبع كما فعل أولًا ليصح قوله: فقدت آية من سورة الأحزاب.
لأن افتقادها فرع العلم بها، ومن أبعد البعيد أن يكون سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيرًا يقرأها ولا يحفظها، ولاسيما وهو مذكور فيمن جمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما رواه البخاري من غير وجه عن أنس-رضي الله عنهم- والظاهر من مثل هذا التتبع الذي لا يجوِّز لمن مارس أمثال هذه الهمم أن يفهم غيره أن يكون لا ينقل آية إلا إذا وجد من حفاظها على حسب ما هي مكتوبة عدد التواتر والله أعلم.
ولما كان هذا الكلام الذي قالوه عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاقًا وله غائظًا موجعًا، قال تعالى: تسلية له على وجه راد عليهم: {ولقد أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة والجلال والهيبة؛ ولما كان الإرسال بالفعل غير عام للزمان كله، قال: {من قبلك} أي كثيرًا من الرسل {في شيع} أي فرق، سموا شيعًا لمتابعة بعضهم بعضًا في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة أو عمارة أو ديانة أو نحو ذلك من الأمور الجارية في العادة {الأولين} كلهم، فما أرسلنا إلا رجالًا من أهل القرى مثلك يوحى إليهم، ولم نرسل مع أحد منهم ملائكة تراها أممهم، بل جعلنا مكاشفة الملائكة أمرًا خاصًا بالرسل، فكذبوا رسلهم {وما يأتيهم} عبر بالمضارع تصويرًا للحال، إيذانًا بما يوجب من الغضب، فإن ما تجعل المضارع حالًا والماضي قريبًا منه، وأكد النفي فقال: {من رسول} أي على أي وجه كان {إلا كانوا به} أي جبلة وطبعًا {يستهزئون} مكررين لذلك دائمًا، فكأنهم تواصوا بمثل هذا، ولم ينقص هذا من عظمتنا شيئًا، فلا تبتئس بما يفعلون بك؛ والاستهزاء في الأصل: طلب الهزوء، والمراد به هنا- والله أعلم- الهزء، وهو إظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح كاللعب والسخرية، ولعله عبر عنه بالسين المفهمة للطلب إشارة إلى أن رغبتهم فيه لا تنقضي كما هو شأن الطالب للشيء، مع أنهم لا يقعون على مرادهم في حق أهل الله أصلًا، لأنهم لا يفعلون من ذلك فعلًا إلا كان ظاهر البعد عما يريدون، لظهور ما يدعو إليه حزب الله وثباته، فكانوا لذلك كطالب ما لم يقع، وإنما كان الناس إلى ما يوجبه الجهل من الاستهزاء ونحوه أسرع منهم إلى ما يوجبه العلم من الأخذ بالحزم والنظر في العواقب، لما في ذلك من تعجل الراحة واللذة وإسقاط الكلفة بإلزام النفس الانتقال من حال إلى حال- قاله الرماني.
ولما كانت قلوب أهل الضلال موصوفة بالضيق والحرج، كان الداخل إليها لا يدخل إلا بغاية العسر، فلذلك قال جوابًا لمن كأنه قال: أهذا خاص بهؤلاء؟ فقيل: لا، بل {كذلك} أي مثل هذا السلك العجيب الشأن، وعبر بالمضارع الدال مع التجدد على الاستمرار، لاقتضاء المقام له كما تقدم في أولها فقال: {نسلكه} أي الذكر {في قلوب المجرمين} أي العريقين في الإجرام في كل زمن كما يسلك الخيط والرمح ونحوه فيما ينظر فيه من مخيط وغيره بغاية العسر، فلا يتسع له المحل فلا ينفع، حال كونهم {لا يؤمنون به} لشيء من الأشياء، لأن صدورهم لا تنشرح له كما رأيت سنتنا بذلك في قومك {وقد خلت} أي مضت من قبل هذا {سنة} أي طريقة {الأولين} بذلك، ونحن قادرون على فعل ما نريد من تلك السنة بهذه الأمة من إهلاك وتيسير إيمان وغير ذلك، فهو ناظر إلى قوله: {وقرآن مبين} والغرض بيان أنه تعالى يعمي بعض الأبصار على الجلي، ويبصر بعضها بالخفي، إظهارًا للقدرة والاختيار بإنفاذ الأمر على خلاف القياس.
ولما أخبره بهذه الأسرار منبئة عن أحوالهم، وكانت النفس أشد شيء طلبًا لقطع حجة المتعنت بإجابة سؤله، قال تعالى مخبرًا بتحقيق ما ختم به من أنهم لا يؤمنون للخوارق ولو رأوا أعجب من الإيتان بالملائكة: {ولو فتحنا} أي بما لنا من العظمة {عليهم} أي على من قال: لو ما تأتينا بالملائكة {بابًا} يناسب عظمتنا {من السماء} وأشار إلى أن ذلك حالهم- ولو كانوا في أجلى الأوقات وهو النهار- بقوله: {فظلوا} أي الكفار {فيه} أي ذلك الباب العالي {يعرجون} أي يصعدون ماشين في الصعود مشية الفرح {لقالوا} عنادًا وإبعادًا عن الإيمان: {إنما سكرت} أي سدت وغشيت {أبصارنا} أي حتى ظننا ما ليس بواقع واقعًا {بل نحن قوم} أي وإن كان لنا غاية القوة على ما نريد محاولته {مسحورون} أي ثابت وقوع السحر علينا حتى صرنا نرى الأشياء على خلاف ما هي عليه ونثبت ما لا حقيقة له؛ والسكر: السد بإدخال اللطيف في المسام فيمنع الشيء كمال ما كان عليه، ومنه السكر بالشراب، والسحر: حيلة خفية توهم معنى المعجزة من غير حقيقة. اهـ.

.قال الفخر:

قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أن القوم إنما قالوا: {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} [الحجر: 6]. لأجل أنهم سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الله تعالى نزل الذكر علي» ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون}.
فأما قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم فإن الواحد منهم إذا فعل فعلًا أو قال قولًا قال: إنا فعلنا كذا وقلنا كذا فكذا ههنا.
المسألة الثانية:
الضمير في قوله: {لَهُ لحافظون} إلى ماذا يعود؟ فيه قولان:
القول الأول: أنه عائد إلى الذكر يعني: وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42]، وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82].
فإن قيل: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله فلا خوف عليه.
والجواب: أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك قال أصحابنا: وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونًا من الزيادة والنقصان، فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصونًا عن التغيير، ولما كان محفوظًا عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضًا أن يظن بهم النقصان، وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة.
والقول الثاني: أن الكناية في قوله: {لَهُ} راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء، وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال: لما ذكر الله الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه، لكونه أمرًا معلومًا كما في قوله تعالى: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1]. فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا، إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
إذا قلنا الكناية عائدة إلى القرآن فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن قال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزًا مباينًا لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن فصار كونه معجزًا كإحاطة السور بالمدينة لأنه يحصنها ويحفظها، وقال آخرون: إنه تعالى صانه وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته، وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف، وقال آخرون: المراد بالحفظ هو أن أحدًا لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا، فهذا هو المراد من قوله: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون}.
واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير، إما في الكثير منه أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصونًا عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضًا أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظًا عن التغيير والتحريف، وانقضى الآن قريبًا من ستمائة سنة فكان هذا إخبارًا عن الغيب، فكان ذلك أيضًا معجزًا قاهرًا.
المسألة الرابعة:
احتج القاضي بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون} على فساد قول بعض الإمامية في أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان قال: لأنه لو كان الأمر كذلك لما بقي القرآن محفوظًا، وهذا الاستدلال ضعيف، لأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه، فالإمامية الذين يقولون إن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان، لعلهم يقولون إن هذه الآية من جملة الزوائد التي ألحقت بالقرآن، فثبت أن إثبات هذا المطلوب بهذه الآية يجري مجرى إثبات الشيء نفسه وأنه باطل والله أعلم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)}
اعلم أن القوم لما أساؤوا في الأدب وخاطبوه بالسفاهة وقالوا: إنك لمجنون، فالله تعالى ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت.
ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام، فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في الآية محذوف والتقدير: ولقد أرسلنا من قبلك رسلًا إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه.
وقوله: {فِى شِيَعِ الأولين} أي في أمم الأولين وأتباعهم.
قال الفراء: الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه، والشيعة الأمة سموا بذلك، لأن بعضهم شايع بعضًا وشاكله، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65]. قال الفراء: وقوله: {فِى شِيَعِ الأولين} من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله: {حَق اليقين} [الواقعة: 95]، وقوله: {بِجَانِبِ الغربي} [القصص: 44]، وقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} [البينة: 5]. أما قوله: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور.
الأول: أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات.
والثاني: أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة، وذلك شاق شديد على الطباع.
والثالث: أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضًا في غاية المشقة.
والرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون فقيرًا ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة.
والخامس: خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم، وهذا هو السبب الأصلي؛ فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة.
أما قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ المجرمين} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون، وقيل: في قوله: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ} [المدثر: 42]. أي أدخلكم في جهنم.